الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المناظر **
فأما التفرق الذي بين المبصرات فإن البصر يدركه من تفرق صورتي الجسمين المبصرين المفترقين اللتين تحصلان في البصر. إلا أن كل جسمين مفترقين فإن التفرق الذي بينهما إما أن يظهر منه ضوء أو جسم متلون مضيء أو يكون موضع التفرق مظلماً لا يظهر ما وراءه. وإذا أدرك البصر جسمين متفرقين وحصلت صورتاهما في البصر فإن صورة الضوء الذي يظهر من التفرق أو صورة لون الجسم المتلون الذي يظهر من التفريق أو الظلمة التي تكون في موضع التفريق تحصل في الجزء من البصر الذي فيما بين صورتي الجسمين المتفرقين اللتين تحصلان في البصر. والضوء واللون أو الظلمة قد يحتمل أن تكون في جسم متوسط بين الجسمين متصل بكل واحد من الجسمين. فإن لم يحس البصر أن الضوء أو اللون أو الظلمة التي في موضع التفرق ليس هو في جسم متصل بالجسمين اللذين عن جنبتيه فليس بتفريق الجسمين. وأيضاً فإن سطح كل واحد من الجسمين المتفرقين منعطف إلى جهة التباعد في موضع التفرق فربما كان انعطاف سطحي الجسمين أو سطح أحد الجسمين ظاهراً للبصر وربما لم يظهر للبصر. وإذا ظهر انعطاف سطحي الجسمين أو سطح أحد الجسمين للبصر أحس البصر من ذلك بتفرق الجسمين. فالبصر يدرك تفرق الأجسام من إدراكه لأحد المعاني التي ذكرناها: إما من إدراكه الضوء من موضع التفرق مع إحساسه بأن ذلك الضوء من وراء سطحي الجسمين المتفرقين أو من إدراكه جسماً متلوناً في موضع التفرق مع إحساسه بأن ذلك الجسم غير كل واحد من الجسمين المتفرقين أو من إدراكه ظلمة موضع التفريق مع إدراك القوة المميزة أن ذلك هو ظلمة وليس هو جسماً متصلاً بالجسمين أو من إدراكه لانعطاف كل واحد من سطحي الجسمين في موضع التفرق أو انعطاف سطح أحد الجسمين. فجميع ما يدركه البصر من تفرق الأجسام إنما يدركه بالاستدلال من أحد هذه المعاني أو أكثر من واحد منها. والتفرق قد يكون بين جسمين منفصلين وقد يكون بين جسمين غير منفصلين وهو أن يكون الجسمان متصلين ببعض أجزائهما منفصلين ببعضهما كالأنامل وأعضاء الحيوان وكثير من الجدران وكأغصان الشجر. وعلى كلى الحالين فالبصر إنما يدرك التفرق على الوجوه التي بيناها كان الجسمان المتفرقان منفصلين بالكلية أو كانا متصلين ببعض أجزائهما مفترقين ببعضهما. وقد يدرك تفرق الأجسام بالمعرفة وبتقدم العلم ولكن ليس ذلك الإدراك بإحساس البصر. وتفرق الأجسام منه ما هو فسيح وفيه سعة ومنه ما هو ضيق ويسير. فالتفرق الفسيح ليس يخفى عن البصر في أكثر الأحوال ولا يشتبه على البصر لظهور الجسم المسامت للتفرق وإحساس البصر به وبأنه غير كل واحد من الجسمين المتفرقين أو أدرك الضوء والفضاء المضيء المسامت للتفرق. فأما التفرق اليسير والغضون الضيقة فإنما يدركها البصر من البعد الذي ليس يخفى منه الجسم المساوي مقداره لمقدار سعة التفرق. فأما إذا كان التفرق بين الجسمين ضيقاً خفياً وكان بعد الجسمين عن البصر بعداً قد تخفى من مثله الأجسام التي مقاديرها كمقدار سعة التفرق فليس يدرك البصر تفرقها وإن كان بعد الجسمين عن البصر من الأبعاد المعتدلة وكان البصر يدرك الجسمين إدراكاً صحيحاً. لأن البعد المعتدل إنما هو البعد الذي ليس يخفى منه مقدار محسوس النسبة إلى مقدار جملة البعد والإدراك الصحيح هو الذي ليس بينه وبين حقيقة المبصر تفاوت محسوس النسبة إلى جملة البصر. والتفرق قد تكون سعته بمقدار ليس له نسبة محسوسة إلى بعد المبصر ولا قدر محسوس عند كل واحد من الجسمين المتفرقين لأن التفرق ربما كان بمقدار ما تستره شعرة أو قريباً من ذلك وليس تخرجه هذه الحال من أن يكون تفرقاً فالأبعاد التي منها يدرك البصر التفرق تكون بحسب مقدار سعة التفرق. فالتفرق بين المبصرات يدركه البصر على الصفات التي بيناها. فأما الاتصال فإن البصر يدركه من عدم التفرق. فإذا لم يحس البصر في الجسم بشيء من التفرق أدركه متصلاً. وإن كان في الجسم تفرق خفي ولم يدركه البصر فإن البصر يدرك ذلك الجسم متصلاً وإن كان فيه تفرق. فالاتصال إنما يدركه البصر من عدم التفرق. والبصر يدرك التماس أيضاً ويفرق بين التماس والاتصال من إدراكه لاجتماع نهايتي الجسمين مع العلم بأن كل واحد من الجسمين منفصل عن الآخر. وليس يحكم البصر بالتماس إلا بعد العلم بأن كل واحد من الجسمين المتماسين غير الآخر منفصل عن الآخر فإن الفصل الذي بين المتماسين قد يوجد متله في الأجسام المتصلة. فإن لم يحس الحاس أن كل واحد من الجسمين المتماسين غير الأخر ومنفصل عنه لم يحس بالتماس وحكم بالاتصال. فأما العدد فإن البصر يدركه بالاستدلال من المعدودات. وذلك أن البصر قد يدرك عدة من المبصرات المتفرقة معاً في وقت واحد. وإذا أدرك البصر المبصرات المتفرقة وأدرك تفرقها فقد أدرك أن كل واحد منها غير الآخر. وإذا أدرك أن كل واحد منها غير الآخر فقد أدرك الكثرة. وإذا أدرك الكثرة فالقوة المميزة تدرك من الكثرة العدد. فالعدد يدرك بحاسة البصر من إدراك البصر لعدة من المبصرات المتفرقة إذا أدركها البصر معاً وأدرك تفرقها وأدرك أن كل واحد منها غير الآخر. فعلى هذه الصفة يدرك العدد بحاسة البصر. فأما الحركة فالبصر يدركها بالاستدلال من قياس المتحرك إلى غيره من المبصرات. وذلك أن البصر إذا أدرك المبصر المتحرك وأدرك معه غيره من المبصرات فإنه يدرك وضعه من تلك المبصرات ومسامتته لتلك المبصرات. وإذا كان المبصر متحركاً وكانت تلك المبصرات غير متحركة بحركة ذلك المبصر المتحرك فإن وضع ذلك المبصر المتحرك يختلف عند تلك المبصرات في حال تحركه. وإذا كان البصر يدركه ويدرك تلك المبصرات معه ويدرك وضعه من تلك المبصرات أدركته حركته. فالحركة يدركها البصر من إدراكه لاختلاف وضع المبصر المتحرك إلى عدة من المبصرات أو من قياس المبصر المتحرك إلى مبصر واحد بعينه أو من قياس المبصر المتحرك إلى البصر نفسه. أما قياس المبصر المتحرك إلى عدة من المبصرات فإن البصر إذا أدرك المبصر المتحرك وأدركه مسامتاً لمبصر من المبصرات ثم أدركه مسامتاً لمبصر آخر غير ذلك المبصر مع ثبوت البصر في موضعه فإنه يحس بحركة ذلك المبصر. وأما قياس المبصر المتحرك إلى مبصر واحد بعينه فإن البصر إذا أدرك المبصر المتحرك وأدرك وضعه من مبصر آخر ثم أدرك وضعه قد تغير عند ذلك المبصر الآخر بعينه إما بأن يبعد عنه بأكثر من بعده الأول وإما بأن يقرب منه وإما بأن يكون في جهة من الجهات بالقياس إلى ذلك المبصر فيصير في جهة غيرها بالقياس إليه بعينه مع ثبوت البصر في موضعه وإما يتغير وضع جزء من أجزاء المبصر المتحرك بالقياس إلى ذلك المبصر أو تغير وضع أجزائه بالقياس إلى ذلك المبصر وعلى هذه الصفة الأخيرة يدرك البصر حركة المبصر المتحرك على الاستدارة إذا قاسه إلى مبصر آخر فإذا أدرك البصر وضع المبصر المتحرك أو وضع المتحرك أو وضع أجزائه أو وضع جزء من أجزائه قد تغير بالقياس إلى مبصر آخر فقد أدرك حركة المبصر المتحرك. وأما قياس المبصر المتحرك إلى البصر نفسه فإن البصر إذا أدرك المبصر المتحرك فإنه يدرك جهته ويدرك بعده. وإذا كان البصر ساكناً والمبصر متحركاً فإن وضع المبصر المتحرك بالقياس إلى البصر. فإن كانت حركة المبصر على مسافة معترضة فإن جهته تتغير ويحس بتغير جهته. وإذا أحس البصر بتغير جهته مع سكون البصر أحس بحركته. وإن كانت حركة المبصر على السمت الممتد بينه وبين البصر وكانت حركته في جهة التباعد أو في جهة التقارب فإنه يبعد عن البصر أو يقرب منه. وإذا أحس البصر ببعده عنه أو قربه منه مع ثبوت البصر في موضعه فهو يحس بحكته. وإن كانت حركة المبصر على الاستدارة فإن الجزء منه الذي يلي البصر ويتبدل. وإذا تغير ما يلي البصر من أجزاء البصر بتغيرها مع ثبوت البصر في موضعه أحس بحركة المبصر. فعلى هذه الصفات يدرك البصر الحركة إذا كان ثابتاً في موضعه. البصر متحركاً. وذلك يكون إذا أحس البصر باختلاف وضع المبصر المتحرك مع إحساسه بأن ذلك الاختلاف ليس هو من أجل حركة البصر. وفرق في الحال بين اختلاف الوضع الذي يعرض لذلك المبصر من أجل حركة المبصر نفسه وبين اختلاف الوضع الذي يعرض لذلك المبصر من أجل حركة المبصر نفسه وبين اختلاف الوضع الذي يعرض له من أجل حركة البصر. فإذا أحس البصر باختلاف وضع المبصر المتحرك وأحس بأن اختلاف وضعه ليس هو من أجل حركة البصر أحس بحركة المبصر. وقد تتحرك صورة المبصر المتحرك في البصر من أجل حركته ولكن ليس يدرك البصر حركة المبصر من تحرك صورته في البصر فقط. وليس يدرك البصر الحركة إلا بقياس المبصر المتحرك إلى غيره على الوجوه التي بيناها. وذلك أن المبصر الساكن قد تحركت صورته في البصر مع سكونه ولا يدركه البصر من أجل ذلك متحركاً. لأن البصر إذا تحرك في مقابلة المبصرات عند تأمل المبصرات فإن صورة كل واحد من المبصرات المقابلة للبصر تتحرك في سطح البصر عند حركته ما كان منها ساكناً وما كان منها متحركاً والبصر قد ألف حركة صور المبصرات في سطحه مع سكون المبصرات فليس يحكم بحركة المبصر من أجل حركة صورته إلا إذا حصل في البصر صورة آخر وأدرك البصر اختلاف وضع صورة المبصر المتحرك بالقياس إلى صورة المبصر الآخر أو من تبدل الصور في الموضع الواحد من البصر الذي يكون من حركة الاستدارة. فليس يدرك البصر الحركة إلا على الوجوه التي فصلناها. والبصر يدرك حركة المبصر ويدرك كيفية حركته. أما إدراكه للحركة فعلى الصفات التي ذكرناها. وأما إدراكه لكيفية الحركة فمن إدراكه للمسافة التي يتحرك عليها المبصر إذا كان المبصر ينتقل بجملته. ويتحقق البصر كيفية الحركة إذا تحقق شكل المسافة التي يتحرك عليها المبصر المتحرك. وإذا كان المبصر يتحرك على نفسه حركة مستديرة فإن البصر يدرك أن حركته مستديرة من إدراكه لتبدل أجزائه التي تلي البصر أو تبدل أجزائه التي تلي مبصراً من المبصرات أو من مسامتة جزء من أجزائه لمبصرات مختلفة واحداً بعد واحد أو لأجزاء مبصر واحد جزءاً بعد جزء مع ثبوت جملة البصر في موضعه. وإن كانت حركة المبصر مركبة من الاستدارة مع الانتقال من موضعه على مسافة من المسافات فإن البصر يدرك أن تلك الحركة مركبة من إدراكه لتبدل أجزاء المبصر المتحرك بتلك الحركة بالقياس إلى البصر أو إلى مبصر آخر مع إدراكه لانتقال جملة المبصر من موضعه وتبدل مكانه. فعلى هذه الصفات يدرك البصر كيفيات حركات المبصرات. وليس يدرك البصر الحركة إلا في زمان وذلك أن الحركة ليس تكون إلا في زمان وكل جزء من الحركة ليس يكون إلا في زمان. والبصر ليس يدرك حركة المبصر إلا من إدراك المبصر في موضعين مختلفين أو على وضعين مختلفين. ولا يختلف وضع المبصر إلا في زمان وليس يكون المبصر في موضعين مختلفين ولا على وضعين مختلفين إلا في وقتين مختلفين. وإذا أدرك البصر المبصر في موضعين مختلفين أو على وضعين مختلفين فإن إدراكه له في الموضعين أو على الوضعين إنما يكون في وقتين مختلفين فبينهما زمان فليس يدرك البصر الحركة إلا في زمان. فنقول إن الزمان الذي يدرك فيه البصر الحركة ليس يكون إلا محسوساً. وذلك أن البصر إنما يدرك الحركة من إدراك المبصر في موضعين مختلفين موضع بعد موضع أو على وضعين مختلفين وضع بعد وضع. فإذا أدرك البصر المبصر المتحرك في الموضع الثاني ولم يدركه في تلك الحال في الموضع الأول الذي أدركه فيه من قبل فقد أحس الحاس أن الوقت الذي أدركه فيه في الموضع الأول الذي أدركه فيه من قبل فقد أحس الحاس أن الوقت الذي أدركه فيه في الموضع الثاني غير الوقت الذي أدركه فيه في الموضع الأول. وإذا أحس بأن الوقت الذي أدركه فيه في الموضع الثاني هو غير الوقت الذي أدركه فيه في الموضع الأول فقد أحس باختلاف الوقتين. وكذلك إذا أدرك الحركة من اختلاف وضع المتحرك. لأنه إذا أدرك المتحرك على الوضع الثاني ولم يدركه في تلك الحال على الوضع الأول الذي أدركه عليه من قبل فقد أحس باختلاف الوقتين. وإذا أحس الحاس باختلاف الوقتين فقد أحس بالزمان الذي بينهما. وإذا كان ذلك كذلك فالزمان الذي يدرك فيه البصر الحركة ليس يكون إلا محسوساً. وإذ قد تبينت جميع هذه المعاني مشروحة فإنا نقتص ما تبين جميعها فنقول: إن البصر يدرك الحركة من إدراكه للمبصر المتحرك على وضعين مختلفين في وقتين مختلفين يكون الزمان الذي بينهما محسوساً وهذه هي كيفية إدراك البصر للحركة. والبصر يدرك اختلاف الحركات في السرعة والبطء ويدرك تساوي الحركات من إدراكه للمسافات التي تتحرك عليها المبصرات المتحركة. فإذا أدرك البصر مبصرين متحركين وأدرك المسافتين اللتين يتحرك عليهما المبصران وأحس بأن إحدى المسافتين اللتين قطعهما المبصران المتحركان في زمان واحد أعظم من الأخرى أحس بسرعة حركة المبصر الذي قطع المسافة العظمى. وإذا كانت المسافتان اللتان يتحرك عليهما المبصران وقطعاهما في زمان واحد بتساوي حركتي المتحركين. وكذلك إن أحس بتساوي المسافتين مع اختلاف زماني الحركتين فإنه يحس بسرعة حركة المتحرك الذي قطع المسافة في زمان أصغر. وكذلك إن قطع المتحركان في زمانين متساويين مسافتين متساويتين وأحس البصر بتساوي الزمانين وتساوي المسافتين أحس بتساوي الحركتين. فقد تبين كيف يدرك البصر الحركات وكيف يميز الحركات وكيف يدرك كيفياتها وكيف يدرك تساويها واختلافها. فأما السكون فإن البصر يدركه من إدراك المبصر في زمان محسوس في موضع واحد على وضع واحد. فإذا أدرك البصر المبصر في موضع واحد على وضع واحد في وقتين مختلفين بينهما زمان محسوس أدرك المبصر في ذلك القدر من الزمان ساكناً. والبصر يدرك وضع المبصر الساكن بالقياس إلى غيره من المبصرات وبالقياس إلى البصر نفسه. فعلى هذه الصفة يكون إدراك البصر لسكون المبصرات. فأما الخشونة فإن البصر يدركها في الأكثر من صورة الضوء الذي يظهر في سطح الجسم الخشن. وذلك أن الخشونة هي اختلاف وضع أجزاء سطح الجسم وهو أن يكون بعض أجزاء السطح شاخصة وبعضها غائرة. وإذا كانت أجزاء سطح الجسم مختلفة الوضع فإن الضوء إذا أشرق على سطح ذلك الجسم كان للأجزاء الشاخصة أظلال على الأجزاء الغائرة في أكثر الأحوال. وإذا وصل الضوء إلى الأجزاء الغائرة فإنه يكون معه أظلال عن بعض الأضواء. والأجزاء الشاخصة ظاهرة للضوء فليس تستتر عن الضوء الذي يحصل في ذلك السطح. وإذا حصل في الأجزاء الغائرة أظلال وليس على الأجزاء الشاخصة أظلال اختلفت صورة الضوء في سطح ذلك الجسم. والسطح الأملس أجزاؤه متشابهة الوضع فإذا أشرق عليه الضوء كانت صورة الضوء في جميع السطح متشابهة. فصورة الضوء في سطح الجسم الخشن مخالفة لصورة الضوء في السطح الأملس. والبصر يعرف صورة الضوء الذي في السطوح الخشنة وصورة الضوء الذي في السطوح الملس بكثرة مشاهدته للسطوح الخشنة والسطوح الملس. فإذا أحس البصر بالضوء الذي في سطح الجسم على الصفة التي قد ألفها في السطوح الخشنة حكم بخشونة سطح ذلك الجسم. وإذا أحس بالضوء الذي في سطح الجسم على الصفة التي قد ألفها من السطوح الملس حكم بملاسة سطح ذلك الجسم. فالخشونة يدركها البصر في الأكثر من صورة الضوء الذي يدركه سطح الجسم الخشن. وإذا كانت الخشونة مسرفة كانت الأجزاء الشاخصة مقتدرة المقادير. وإذا كان سطح الجسم بهذه الصفة فإن البصر يدرك الأجزاء الشاخصة ويدرك شخوصها ويدرك اختلاف أوضاع أجزاء سطح الجسم من إدراكه التفرق الذي بين الأجزاء. وإذا أدرك البصر اختلاف أوضاع أجزاء سطح الجسم فقد أدرك خشونته من غير حاجة إلى اعتبار الضوء. فقد يدرك البصر خشونة سطح الجسم على هذه الصفة أيضاً إذا كانت الخشونة مسرفة. وأيضاً فإن الجسم إذا كانت خشونته مسرفة وأشرق عليه الضوء كانت صورة الضوء في سطحه مختلفة اختلافاً متفاوتاً فيظهر من اختلاف صورة الضوء تفرق الأجزاء واختلاف وضعها ويظهر من ذلك خشونة الجسم. فإذا كان الضوء المشرق على الجسم الخشن من الجهة المقابلة للسطح الخشن وكان الضوء قوياً ولم يظهر في سطح الجسم اختلاف لصورة الضوء فإن البصر ليس يدرك خشونة الجسم الذي بهذه الصفة إلا إذا أدرك أجزاءه متميزة وأدرك شخوص بعضها وغؤور بعض. فإن كانت خشونة الجسم الذي بهذه الصفة مسرفة فإن البصر يدرك تميز الجزاء واختلاف وضعها ويدرك خشونة الجسم في الأكثر. وإن كانت الخشونة يسيرة وكانت الأجزاء الغائرة والمسام التي في ذلك الجسم في غاية الصغر فإنها قد تخفى عن البصر في أكثر الأحوال إذا كان الضوء المشرق على الجسم قوياً ولم يظهر اختلاف صورته في سطح الجسم. وليس يدرك البصر خشونة الجسم الذي بهذه الصفة إلا من القرب الشديد ومع تأمل أجزاء سطح الجسم. فإذا ظهر للبصر تميز الأجزاء من الجسم الذي بهذه الصفة وشخوص ما هو شاخص من الأجزاء وغؤور ما هو غائر أدرك خشونته. وإن لم يظهر تميز أجزائه ولا غؤورها فليس يدرك خشونته. فالخشونة يدركها البصر من إدراكه لاختلاف أوضاع أجزاء سطح الجسم أو من صورة الضوء التي قد ألفها البصر في سطوح الأجسام الخشنة. وقد يستدل البصر على الخشونة من عدم الصقال فإذا لم يحس البصر في الجسم بشيء من الصقال حكم بخشونته. إلا أن كثيراُ ما يعرض للبصر الغلط في الخشونة إذا استدل عليها بهذا المعنى لأنه قد يكون السطح صقيلاً ولا يظهر صقاله لأن الصقال ليس يظهر إلا من وضع مخصوص. فأما الملاسة وهي استواء سطح الجسم فإن البصر يدركها في الأكثر من صورة الضوء الذي يظهر في سطح الجسم الأملس التي قد ألفها في السطوح الملس. وإذا كان الضوء الذي في سطح الجسم متشابه الصورة استدل البصر على ملامسة السطح. وقد يدرك البصر الملامسة بالتأمل أيضاً. فإذا تأمل البصر سطح الجسم الأملس أدرك تطامن أجزائه واستواءها وإذا أدرك تطامن الأجزاء واستواءها فقد أدرك ملاسته. فأما الصقال وهو شدة الملاسة فإن البصر يدركه من بريق الضوء ولمعانه في سطح الجسم. وليس يدرك البصر الصقال وشدة الملاسة إلا من بريق الضوء ولمعانه في سطح الجسم. فالملاسة يدركها البصر من إدراكه لاستواء السطح. واستواء السطح يدركه البصر في الأكثر من تشابه صورة الضوء في سطح الجسم وقد يدركه بالتأمل. والصقال يدركه البصر من لمعان الضوء في سطح الجسم ومن الوضع الذي يحسبه ينعكس الضوء. وقد تجتمع الخشونة والملاسة معاً في السطح الواحد. وذلك بان يكون في سطح الجسم أجزاء مختلفة الوضع شاخصة وغائرة وتكون أجزاء سطح كل واحد من الأجزاء المختلفة الوضع الشاخصة والغائرة أو بعضها متطامنة ومتشابهة الوضع فيكون السطح بجملته خشناً وتكون أجزاؤه أو بعضها ملساً وصقيلة. وتظهر خشونة السطح الذي بهذه الصفة للبصر من إدراكه لاختلاف وضع الأجزاء الشاخصة والغائرة وتظهر ملاسة الأجزاء وصقالها من صور الضوء الذي يدركه البصر في سطوح الأجزاء. وقد يدرك البصر ملاسة الأجزاء التي بهذه الصفة بالتأمل أيضاً من إدراكه لتطامن سطح كل واحد منها. فعلى هذه الصفات يدرك البصر الملاسة والصقال والخشونة. فأما الشفيف فإن البصر يدركه بالاستدلال من إدراكه لما وراء الجسم المشف. وليس يدرك شفيف الجسم المشف إلا إذا كان فيه بعض الكثافة وكان شفيفه أغلظ من شفيف الهواء المتوسط بينه وبين البصر. فأما إذا كان في غاية الشفيف فليس يدرك البصر شفيفه ولا يحس به وإنما يدرك ما وراءه فقط. وإذا كان فيه بعض الكثافة أدركه البصر بما فيه من الكثافة وأدرك شفيفه من إدراكه لما وراءه. فإن الجسم المشف إذا كان وراءه ضوء أو جسم متلون مضيء فإنه يظهر من وراء الجسم المشف ويحس به البصر. وليس يحس البصر بشفيف الجسم إذا أحس بما وراءه إلا إذا أحس الضوء واللون الذي يدركه من وراء الجسم المشف هو ضوء أو لون من وراء الجسم المشف وليس هو لون الجسم نفسه ولا ضوءه. فإن لم يحس بأن الضوء الذي يدركه من وراء الجسم المشف أو اللون هو من وراء الجسم المشف فليس يحس بشفيف الجسم المشف. وإن لم يكن وراء الجسم المشف ضوء ولا جسم مضيء ولا عن جوانبه ولم يظهر من ورائه ولا من جهة من جهاته شيء من الضوء أو اللون فليس يحس البصر بشفيف ذلك الجسم. وذلك يكون إذا كان الجسم المشف ملتصقاً بجسم من الأجسام الكثيفة وكان الجسم الكثيف مشتملاً عليه أو مسامتاً له من جميع جهاته وكان الجسم الكثيف ذا لون مظلم يحس البصر بشفيف الجسم الذي بهذه الصفة. وكذلك إذا كان وراء الجسم المشف مكان مظلم ولم يظهر من ورائه شيء من الضوء فإن الجسم الكثيف الذي من وراء الجسم المشف ذا لون مسفر وكان الضوء الذي في الجسم المشف يصل إلى الجسم الكثيف ويظهر للبصر لون ذلك الجسم الكثيف فإن البصر يدرك الجسم المشف الذي بهذه الصفة إذا أحس بأن اللون الذي يدركه من ورائه هو لون جسم غيره وليس هو لونه. فإذا أحس بأن اللون الذي يدركه من ورائه هو لون جسم من وراء الجسم المشف فقد أحس بشفيف الجسم المشف. وكذلك إذا كان الجسم المشف ضعيف الشفيف وكان الجسم الذي وراءه والأجسام التي حوله ضعيفة الضوء فليس يدرك البصر شفيفه إلا إذا استشفه وقابل به ضوءاً قوياً فإذا أحس بالضوء من ورائه أدرك شفيفه. فعلى هذه الصفات يدرك ابصر شفيف الأجسام المشفة. فأما الكثافة فإن البصر يدركها من عدم الشفيف. وإذا أدرك البصر الجسم ولم يحس فيه بشيء من الشفيف حكم بكثافته. والكثافة إنما هي عدم الشفيف. فأما إدراك الظل فإن البصر يدركه بالقياس إلى ما يجاوره من الأضواء أو بما تقدم العلم به من الأضواء. وذلك أن الظل هو عدم بعض الأضواء مع إضاءة موضع الظل بغير ذلك الضوء المعدوم من موضع الظل. فإذا أحس البصر بموضع الظل وأحس بما يجاوره من الأجسام وكان على الأجسام المجاورة لموضع الظل ضوء قوي أقوى من الضوء الذي في موضع الظل أحس باستظلال ذلك الموضع عن الضوء القوى المشرق على الأجسام المجاورة له. وكذلك إذا أحس بضوء ما في موضع من المواضع وعدم في ذلك الموضع ضوء الشمس أو ضوء من الأضواء القوية الموجودة في ذلك الوقت أحس استظلال ذلك الموضع عن ضوء الشمس أو عن ذلك الضوء القوي. وربما أحس البصر بالجسم المظل وربما لم يتميز له في الحال الجسم المظل. إلا أن البصر إذا أدرك موضعاً فيه ضوء ضعيف وأدرك الأجسام المجاورة له وأدرك الضوء الذي على الأجسام المجاورة لموضع الضوء الضعيف أقوى من ذلك الضوء الضعيف فقد أحس بالظل الذي في ذلك الموضع. فعلى هذه الصفة يدرك البصر الظل. فأما الظلمة فأن البصر يدركها بالاستدلال من عدم الضوء. وذلك أن الظلمة هي عدم الضوء بالجملة. فإذا أدرك البصر موضعاً من المواضع ولم يدرك فيه شيئاً من الضوء فقد أحس بالظلمة يدركها الحاس من عدم إحساسه بالضوء. فأما الحسن المدرك بحاسة البصر فإن البصر يدركه من إدراكه للمعاني الجزئية التي قد تبين كيفية إدراك البصر لها. وذلك أن كل واحد من المعاني الجزئية التي تقدم بيانها يفعل نوعاً من الحسن بانفراده وتفعل هذه المعاني أنواعاً من الحسن باقتران بعضها ببعض. والبصر إنما يدرك الحسن من صور المبصرات التي تدرك بحاسة البصر وصور المبصرات مركبة من المعاني الجزئية التي تبين تفصيلها والبصر يدرك الصور من إدراكه لهذه المعاني فهو يدرك الحسن من إدراكه لهذه المعاني. وأنواع الحسن التي يدركها البصر من صور المبصرات كثيرة: فمنها ما تكون علته واحدة من المعاني الجزئية التي في الصورة ومنها ما تكون علته عدة من المعاني الجزئية التي في الصورة ومنها ما تكون علته اقتران المعاني بعضها ببعض لا المعاني أنفسها ومنها ما تكون علته مركبة من المعاني وتألفها. والبصر يدرك كل واحد من المعاني التي في كل واحدة من الصور منفرداً ويدركها مركبة ويدرك اقترانها وتألفها. فالبصر يدرك الحسن على وجوه مختلفة وجميع الوجوه التي منها يدرك البصر الحسن ترجع إلى إدراك المعاني الجزئية. فأما أن هذه المعاني الجزئية هي التي تفعل الحسن منفردة وأعني بقولي تفعل الحسن أي تؤثر في النفس استحسان الصورة المستحسنة فإنه يظهر باليسير من التأمل. وذلك أن الضوء يفعل الحسن. ولذلك تستحسن الشمس والقمر والكواكب. وليس في الشمس والقمر والكواكب علة تستحسن من أجلها وتروق صورتها بسببها غير الضوء وإشراقه. فالضوء على انفراده يفعل الحسن. واللون أيضاً يفعل الحسن. وذلك أن كل واحد من الألوان المشرقة كالأرجوانية والفرفيرية والزرعية والوردية والصعوية وأشباهها تروق الناظر ويلتذ البصر بالنظر إليها. وكذلك تستحسن المصنعات من الثياب والفروش والآلات وتستحسن الأزهار والأنوار والرياض. فاللون والبعد أيضاً قد يفعل الحسن بطريق العرض. وذلك أن الصور المستحسنة منها ما يكون فيها وشوم وغضون ومسام تشين الصورة وتشعث حسنها. فإذا بعدت عن البصر فضل بعد خفيت تلك المعاني الدقيقة التي تشين تلك الصورة فيظهر عند خفاء تلك المعاني حسن الصورة. وكذلك أيضاً كثير من الصور المستحسنة قد تكون فيها معان لطيفة من أجلها كانت الصورة كالنقوش الدقيقة والتخطيط والترتيب. وكثير من هذه المعاني قد تخفى عن البصر من كثير من الأبعاد المعتدلة فإذا قربت من البصر فضل قرب ظهرت تلك المعاني اللطيفة للبصر ظهر حسن الصورة للبصر. فزيادة البعد ونقصان البعد قد يظهر الحسن. فالبعد على انفراده قد يفعل الحسن. والبعد أيضاً قد يفعل الحسن بطريق العرض. وذلك أن الصور المستحسنة منها ما يكون فيها وشوم وغضون ومسام تشين الصورة وتشعث حسنها. فإذا بعدت عن البصر فضل بعد خفيت تلك المعاني الدقيقة التي تشين تلك الصورة فيظهر عند خفاء تلك المعاني حسن الصورة. وكذلك أيضاً كثير من الصور المستحسنة قد تكون فيها معان لطيفة من أجلها كانت الصورة حسنة كالنقوش الدقيقة والتخطيط والترتيب. وكثير من هذه المعاني قد تخفى عن البصر من كثير من الأبعاد المعتدلة فإذا قربت من البصر فضل قرب ظهرت تلك المعاني اللطيفة للبصر وظهر حسن الصورة للبصر. فزيادة البعد ونقصان البعد قد يظهر الحسن. فالبعد على انفراده قد يفعل الحسن. والوضع قد يفعل الحسن وكثير من المعاني المستحسنة إنما تستحسن من أجل الترتيب والوضع فقط. وذلك أن النقوش كلها إنما تستحسن من أجل الترتيب. والكتابة المستحسنة إنما تستحسن من أجل الترتيب. لأن حسن الخط إنما هو من تقويم أشكال الحروف ومن تأليف بعضها ببعض. فإن لم يكن تأليف الحروف وترتيبها منتظماً متناسباً فليس يكون الخط حسناً وإن كانت أشكال حروفه على انفرادها صحيحة مقومة. وقد يستحسن الخط إذا كان تأليفه تأليفاً منتظماً وإن لم تكن حروفه في غاية التقويم. وكذلك كثير من صور المبصرات إنما تحسن وتروق من أجل تأليف أجزائها وترتيب بعضها عند بعض. والتجسم يفعل الحسن ولذلك تستحسن الأجسام الخصبة من أشخاص الناس وأشخاص كثير من الحيوان. والشكل يفعل الحسن ولذلك يستحسن الهلال. والصور المستحسنة من الناس وأشخاص كثير من الحيوانات والشجر والنبات إنما تستحسن من أجل أشكالها وأشكال أجزاء الصورة. والعظم يفعل الحسن. ولذلك صار القمر أحسن من كل واحد من الكواكب وصارت والتفرق يفعل الحسن ولذلك صارت الكواكب المتفرقة أحسن من اللطخات وأحسن من المجرة. ولذلك أيضاً صارت المصابيح والشموع المتفرقة أحسن من النار المتصلة المجتمعة. ولذلك أيضاً توجد الأنوار والأزهار المتفرقة في الرياض أحسن من المجتمع منها والمتراص. والاتصال يفعل الحسن ولذلك صارت الرياض المتصلة النبات المتكاثفة أحسن من المتقطع منها والمتفرق. وإن كانت الرياض مستحسنة من أجل ألوانها فالمتصل منها أحسن. والحسن الزائد الذي في المتصل منها إنما يفعله الاتصال فقط. والعدد يفعل الحسن. ولذلك صارت المواضع الكثيرة الكواكب من السماء أحسن من المواضع القليلة الكواكب. ولذلك أيضاً تستحسن المصابيح والشموع إذا اجتمع منها عدد كثير في موضع واحد. والحركة تفعل الحسن. ولذلك يستحسن الرقص وحركات الراقص وكثير من الإشارات وحركات الإنسان في كلامه وأفعاله. والسكون يفعل الحسن. ولذلك يستحسن الوقار والسمت. والخشونة تفعل الحسن. ولذلك يستحسن الخشن من كثير من الثياب والفروش. ولذلك يحسن كثير من الصياغات بأن تخشن وجوهها وتحرش. والشفيف يفعل الحسن. ولذلك تستحسن الجواهر المشفة والأواني المشفة. والكثافة تفعل الحسن لأن الألوان والأضواء والأشكال والتخطيط وجميع المعاني المستحسنة التي تظهر في صور المبصرات ليس يدركها البصر إلا من أجل الكثافة. والظل قد يظهر الحسن. وذلك لأن كثيراً من صور المبصرات قد يكون فيها وشوم وغضون ومسام لطيفة تشينها وتكسف حسنها. فإذا كانت في ضوء الشمس وفي الأضواء القوية ظهرت الوشوم والمسام التي فيها فتخفى محاسنها. وإذا كانت في الظل وفي الأضواء الضعيفة خفيت تلك الوشوم والغضون والمسام التي شانتها فتظهر محاسنها. وأيضاً فإن التقازيح التي تظهر في أرياش الحيوانات وفي النوع المسمى أباقلمون إنما تظهر في الظل وفي الأضواء المنكسرة. وإذا كانت في ضوء الشمس وفي الأضواء القوية خفيت التقازيح والمحاسن التي تظهر فيها إذا كانت في الظل وفي الأضواء المنكسرة. والظلمة تظهر الحسن. وذلك أن الكواكب إنما تظهر في الظلام. وكذلك المصابيح والشموع والنيران إنما يظهر حسنها في سواد الليل وفي المواضع المظلمة وليس يظهر حسنها في ضوء النهار وفي الأضواء القوية. والكواكب في الليالي المظلمة أحسن منها في الليالي المقمرة. والتشابه يفعل الحسن. وذلك أن أعضاء الحيوان المتماثلة ليس تحسن إلا إذا كانت متشابهة. فإن العينين إن كانت مختلفتي الشكل وكانت إحداهما مستديرة والأخرى مستطيلة كانت في غاية القبح. وكذلك إن كانت إحداهن أكبر من الأخرى. وكذلك الوجنتان إن كانت إحداهن جاحظة والأخرى غائرة وكانت في غاية القبح. وكذلك الحاجبان إن كان أحدهما غليظاً والآخر دقيقاً كانا في غاية القبح. وكذلك إن كان أحدهما طويلاً والآخر قصيراً كانا مستقبحين. فجميع أعضاء الحيوانان متماثلة ليس تحسن إلا إذا كانت متشابهة. وكذلك النقوش وحروف الكتابة ليس تحسن إلا إذا كانت الحروف المتماثلة منها والأجزاء المتماثلة منها متشابهة. والاختلاف يفعل الحسن. وذلك أن أشكال أعضاء الحيوان مختلفة الأجزاء وليس تحسن إلا على ما هي عليه من الاختلاف. وذلك أن الأنف لو أنه متساوي الغلظ أوله مساوي الغلظ لآخره لكان في غاية القبح. وليس حسنه إلا باختلاف طرفيه وانخراطه. وكذلك الحاجبان ليس حسنهما إلا إذا كان طرفاهما أدق من بقيتهما. وكذلك جميع أعضاء الحيوان إذا تؤملت يوجد حسنها إنما هو اختلاف أشكال أجزائها. وكذلك النقوش وحروف الكتابة لو تساوت أجزاؤها في الغلظ لما كانت مستحسنة. وذلك أن أطراف الحروف وأواخر التعريقات إنما تحسن إذا كانت مستدقة وأدق من بقية الحروف. ولو تساوت أواخر الحروف وأوساطها وأوائلها ووصولها وتعليقاتها وكانت جميعها في الغلظ على هيئة واحدة لكان الخط في غاية القبح. فالاختلاف فقد تبين مما ذكرناه آن كل واحد من المعاني الجزئية التي تدرك بحاسة البصر التي بينا تفصيلها قد تفعل الحسن على انفراده. وإذا استقرئت وجد كل واحد من هذه المعاني قد تفعل الحسن في مواضع كثيرة. وإنما ذكرنا ما ذكرناه على طريق المثال وليستدل بكل واحد من الأمثلة على نظائره وليتطرق به إلى استقراء أمثاله من أراد البحث عن كيفية تأثيرات هذه المعاني في الصور المستحسنة. إلا أنه ليس تفعل هذه المعاني الحسن في كل المواضع ولا يفعل الواحد من هذه المعاني الحسن في كل صورة يحصل فيها ذلك المعنى بل في بعض الصور دون بعضها. ومثال ذلك العظم ليس يفعل الحسن في كل جسم مقتدر العظم. وكذلك اللون: ليس كل لون يفعل الحسن ولا اللون الواحد يفعل الحسن في كل جسم يحصل فيه ذلك اللون. وكذلك الشكل: ليس كل شكل يفعل الحسن. وكل واحد من المعاني الجزئية التي ذكرناها تفعل الحسن بانفراده ولكن في بعض المواضع دون بعضها وعلى بعض الصفات دون بعضها. وأيضاً فإن هذه المعاني قد تفعل الحسن باقتران بعضها ببعض. وذلك أن الخط الحسن هو الذي تكون أشكال حروفه أشكالاً مستحسنة وتأليف بعضها ببعض تأليفاً مستحسناً وهو غاية حسن الخط. فإن الخط الذي يجتمع فيه هذان المعنيان أحسن من الخط الذي يكون فيه أحد هذين المعنيين دون الآخر. فغاية حسن الخط إنما يكون من اقتران الشكل والوضع. وكذلك الألوان المشرقة الرائقة والنقوش إذا كانت مرتبة ترتيباً منتظماً متشاكلاً كانت أحسن الألوان والنقوش التي ليس لها ترتيب منتظم. وكذلك صور أشخاص الناس والحيوانات قد يظهر فيها الحسن من اقتران المعاني الجزئية التي فيها. وذلك أن كبر العينين الكبر المعتدل مع تلويز شكلها أحسن من العين التي لي لها إلا الكبر فقط أو التلويز فقط. وكذلك سهولة الخدين مع ورقة اللون أحسن من الخدين السهلين مع انكساف اللون وأحسن من الخدين الجاحظين وإن كانا رقيقي اللون. وكذلك استدارة الوجه مع رقة اللون أحسن من صغر الفم مع غلظ الشفتين وأحسن من رقة الشفتين مع سعة الفم. وهذا المعنى كثير التيقن. وإذا استقرئت الصور المستحسنة في جميع المبصرات وجد اقتران المعاني الجزئية التي تكون في الصور تفعل فيها أنواعاً من الحسن لا يفعله الواحد من المعاني على انفراده. وأكثر الحسن الذي يدرك بحاسة البصر إنما يتقوم من اقتران هذه المعاني بعضها ببعض. فالمعاني الجزئية التي ذكرناها تفعل الحسن بانفرادها وتفعل الحسن باقتران بعضها ببعض. وقد يتقوم الحسن من الحسن من معنى آخر غير كل واحد من المعنيين اللذين ذكرناهما وهو الناسب والإئتلاف. وذلك أن الصور المركبة المتألفة من أعضاء مختلفة يحصل لأجزائها أشكال مختلفة وأعظام مختلفة وأوضاع مختلفة واتصال وافتراق ويحصل في كل واحد منها عدة معان من المعاني الجزئية وليس جميعها يكون متناسباً ومتآلفاً. وذلك أنه ليس كل شكل يحسن مع كل شكل ولا عظم يحسن مع كل عظم ولا كل وضع يحسن مع كل وضع ولا كل شكل يحسن مع كل عظم ولا كل عظم مع كل وضع بل كل واحد من المعاني الجزئية يتناسب بعض المعاني ويباين بعضها وكل مقدار فهو يناسب بعض المقادير ويباين بعضها. ومثال ذلك قنو الأنف مع غؤور العينين غير مستحسن وكذلك كبر العينين مع كبر الأنف المسرف الكبر غير مستحسن وكذلك نتوء الجبهة مع غؤور العينين غير مستحسن وتطامن الجبهة مع جحوظ العينين غير مستحسن. فلكل عضو من الأعضاء شكل وأشكال تحسن صورته ومع ذلك فكل شكل من أشكال كل واحد من الأعضاء إنما يناسب بعض الأشكال التي للأعضاء الباقية دون بعضها وتحسن الصورة باجتماع الأشكال المناسبة لأعضاء الصورة. وكذلك أعظام الأعضاء وأوضاعها وترتيبها. فإن كبر العينين مع حسن شكلها ومع قنو الأنف وبالاعتدال وبالعظم المناسب لكبر العينين مستحسن. وكذلك تلويز العينين وحلاوة شكلها وإن صغرتا مع دقة الأنف واعتدال شكله ومقداره إذا اجتمعا في الوجه كان مستحسناً. وكذلك دقة الشفتين مع لطافة الفم مستحسن إذا كانت لطافة الفم مناسبة لدقة الشفتين أعني أن لا تكون الشفتان في غاية الدقة والفم ليس في غاية الصغر بل يكون صغر الفم معتدلاً والشفتان دقيقتين ومع ذلك مناسبة لمقدار الفم. وكذلك سعة الوجه إذا كان مناسباً لمقادير أعضاء الوجه كان مستحسناً أعني أن لا يكون الوجه في غاية السعة وأعضاء الوجه صغاراً أعني غير مناسبة لمقدار جملة الوجه. فإن الوجه إذا كان واسعاً مسرف السعة وكانت الأعضاء التي فيه صغاراً غير مناسبة لمقداره كان الوجه غير مستحسن وإن كانت مقادير الأعضاء متناسبة وأشكالها مستحسنة. وكذلك إن كان الوجه صغيراً ضيقاً وأعضاؤه كباراً غير مناسبة لمقداره كان الوجه مستقبحاً. وإذا كانت الأعضاء متناسبة ومناسبة لمقدار سعة الوجه فإن الصورة تكون مستحسنة وإن لم يكن كل واحد من الأعضاء على انفراده مستحسناً في شكله ومقداره. بل التناسب فقط قد يفعل الحسن إذا لم نكن الأعضاء على انفرادها مستقبحة وإن لم تكن في غاية حسنها. فإذا اجتمع في الصورة حسن أشكال كل واحد من أجزائها وحسن مقاديرها وحسن تأليفها وتناسب الأعضاء في الأشكال والأعظام والأوضاع وجميع المعاني التي يقتضيها التناسب وكانت مع ذلك مناسبة لجملة شكل الوجه ومقداره فهو غاية الحسن. والصورة التي يحصل فيها بعض هذه المعاني دون بعض يكون حسنها بحسب ما فيها من المعاني المستحسنة. وكذلك الخط ليس يكون مستحسناً إلا إذا كانت حروفه متناسبة في أشكالها ومقاديرها وترتيبها. وكذلك جميع أنواع المبصرات التي يجتمع فيها أجزاء مختلفة. فإذا استقرئت الصور المستحسنة من جميع أنواع المبصرات وجد التناسب يفعل فيها من الحسن ما ليس يفعله كل واحد من المعاني الجزئية على انفراده وما ليس تفعله المعاني الجزئية أيضاً التي تجتمع في الصورة باقتران بعضها ببعض. وإذا تؤملت المعاني المستحسنة التي تفعلها المعاني الجزئية باقتران بعضها ببعض أيضاً وجد الحسن الذي يظهر من اقترانها إنما يظهر لتناسب ما يحصل فيما بين تلك المعاني المقترنة وائتلافها. لأنه ليس كلما اجتمع ذلك المعنيان أو تلك المعاني حدث ذلك الحسن بل في بعض الصور دون بعض وهو لتناسب يؤلف بين المعنيين أو المعاني المجتمعة في الصورة. فالحسن إنما يكون من المعاني الجزئية وتمامه وكماله إنما هو من التناسب والائتلاف الذي يحدث بين المعاني الجزئية. قد تبين من جميع ما ذكرناه أن المحاسن والصور المستحسنة التي تدرك بحاسة البصر إنما تكون من المعاني الجزئية التي تدرك بحاسة البصر ومن اقتران بعضها ببعض ومن مناسبة بعضها لبعض. والبصر يدرك المعاني الجزئية التي قدمنا ذكرها مفردة ومقترنة ويدرك الصور المتألفة منها. فإذا أدرك البصر مبصراً من المبصرات وكان في ذلك المبصر معنى من المعاني الجزئية التي قدمنا ذكرها التي تفعل الحسن منفرداً وتأمل البصر ذلك المعنى منفرداً حصلت صورة ذلك المعنى بعد التأمل عند الحاس وأدركت القوة المميزة حسن المبصر الذي فيه ذلك المعنى. لأن صورة كل مبصر من المبصرات مركبة من عدة معان من المعاني التي قد قدمنا تفصيلها. فإذا أدرك البصر المبصر ولم يميز المعاني التي فيه وكان أحد المعاني التي في ذلك المبصر على الصفة التي تفعل الحسن في النفس فإن البصر عند تأمل ذلك المعنى يدرك ذلك المعنى منفرداً. فإذا كان ذلك المعنى منفرداً حصل ذلك الإدراك عند الحاس. وإذا حصل إدراك صورة المعنى الذي يفعل الحسن عند الحاس أدركت القوة المميزة الحسن الذي فيه فأدركت بذلك الإدراك حسن ذلك المبصر. وإذا أدرك البصر مبصراً من المبصرات وكان في ذلك المبصر حسن مركب من معان مقترن بعضها بعض ومن معان مناسب بعضها لبعض وتأمل البصر ذلك المبصر وميز المعاني التي فيه وأدرك المعاني التي فيه وأدرك المعاني التي تفعل الحسن باقتران بعضها ببعض أو مناسبة بعضها لبعض وحصل ذلك الإدراك عند الحاس وقاست القوة المميزة تلك المعاني بعضها ببعض أدركت حسن ذلك المبصر المركب من اقتران المعاني المتألفة التي فيه. فالبصر يدرك الحسن الذي في المبصرات من قياس تلك المعاني بعضها ببعض على الصفة التي فصلناها. فأما القبح فهو الصورة التي تخلو من كل واحد من المعاني المستحسنة. وذلك انه قد تقدم أن المعاني الجزئية قد تفعل الحسن ولكن ليس تفعله في كل المواضع ولا في كل الصور بل في بعض الصور دون بعض. وكذلك التناسب ليس يكون في جميع الصور بل في بعض الصور دون بعض. فالصور التي ليس يفعل فيها شيء من المعاني الجزئية شيئاً من الحسن على انفراد المعاني ولا باقترانها ولا يكون فيها شيء من التناسب في أجزائها فليس فيها شيء من الحسن. وإذا لم يكن فيها شيء من الحسن كانت مستقبحة. لأن قبح الصورة هو عدم الحسن فيها. وقد يجتمع في الصورة الواحدة معان مستحسنة ومعان مستقبحة والبصر يدرك حسن الحسن منها وقبح القبيح إذا ميز المعاني التي فيها وتأملها. والقبح يدركه البصر من الصور التي قد عدمت جميع المحاسن من عدمه الحسن عند إدراكها. وكذلك كل معنى مستقبح. فأما إدراك البصر للتشابه فإن التشابه هو تساوي الصورتين أو المعنيين في المعنى الذي يتشابهان فيهز والبصر يدرك الصور والمعاني التي في الصور على ما هي عليه. فإذا أدرك البصر صورتين متشابهتين معاً أو معنيين متشابهين فهو يدرك تشابههما من إدراكه لكل واحدة من الصورتين أو المعنيين ومن قياس إحدى الصورتين بالأخرى أو المعنيين أحدهما بالآخر ومن إدراكه لتساويهما في المعنى الذي فيه يتشابهان. فالبصر يدرك التشابه في الصور المتشابهة وفي المعاني المتشابهة من إدراكه لكل واحد من الصور والمعاني على ما هي عليه ومن قياس بعضهما ببعض. فأما الاختلاف فإن البصر يدركه في الصور المختلفة من إدراكه لكل واحدة من الصورتين المختلفتين ومن قياس إحديهما بالأخرى ومن إدراكه لعدم التساوي في هيئتهما وفي جميع المعاني التي فيهما التي يختلفان فيها أعني إحساس الحاس بعدم التساوي فيهما. فالاختلاف يدرك بحاسة البصر من إدراك البصر لكل واحدة من الصور والمعاني على انفرادها ومن قياس بعضها ببعض ومن إحساس الحاس بعدم التساوي فيهما. فقد أتينا على تبيين كيفيات إدراك البصر لكل واحد من المعاني الجزئية التي تدرك بحاسة البصر. وقد تبين من جميع ذلك أن المعاني الجزئية التي تدرك بحاسة البصر منها ما يدرك بمجرد الحس ومنها ما يدرك بالمعرفة ومنها ما يدرك بالقياس والاستدلالات. وهذه المعاني التي قصدنا لتبيينها في هذا الفصل.
|